مغترب أم إخواني أم قابع في السبعينيات .. واقع النقد الأدبي في العراق؟

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
08/06/2012 06:00 AM
GMT



تمثل القراءة النقدية التي تبدأ بعد ولادة النص عملية مهمة، لا على اعتبارها فعاليةً طفيليةً تأتي تابعةً للعمل الأول، بل لأنها إنجاز آخر يفتح للقارئ فضاءات التأويل من أجل التوسل إلى النص واستنطاقه. إنّ من الأسئلة التي تواجه إي ناقد ينوي مطاردة الأرواح الجمالية في عالم النّص: ما هي الآلية التي يستند إليها في قراءته؟ وما الأدوات التي يستعين بها في استقبال النص؟ هل يستدعي ما ترك نقادنا الأوائل من مقولات داعبت النّص الشعري كـــ: ( اللفظ والمعنى/ الشكل المضمون/ عمود الشعر/ نظرية النظم/ التخييل/ الرؤيا) على مساحة زمنية متفاوتة، مثّلت بمجموعها بضاعة المذخر النقدي العربي؟ أم يلجأ إلى منهجيات حديثة وافدة من مناخات مختلفة فيكون بهذا متآمراً على جمهورية النصوص الأدبية؟! أم يسلك طريقاً وسطاً لقراءته يجمع بينهما؟.
شهد النقد العراقي انحساراً في السنوات التي تلت الثمانينيات من القرن الماضي، ليكون نسخة تتبنى المناهج النقدية التي سادت أوروبا آنذاك من: بنيوية وأسلوبية وتفكيكية ونظريات النقد الثقافي، وما تلاها من آليات عاشرت النّص بغية القبض على المعنى، فأنتجت هذه المعطيات مجتمعة نقداً إجرائياً تطبيقياً كما في فترات معينة متباينة من عمر النقد. على جانب آخر كما يثبت ذلك بعض الكتاب العراقيين أن هناك مساحات غير جادة في مسيرة النقد العراقي، فأصبحنا نقرأ نصوصاً يكتبها الأدباء والروائيون عن بعضهم. على قاعدة الشعراء يكتبون للشعراء والروائيون يكتبون للروائيين! إذ تأتي قراءتهم ذات طابع شخصي انطباعي. أو تكون قراءة اخوانية أو وظيفية لا تملك رؤية حقيقية.
اسقاط فرض
لا يرى الشاعر العراقي طالب عبد العزيز أن قضية النقد الأدبي في العراق واحدة من معضلات ثقافتنا هنا فحسب، لكني أعتقد بوجود أزمة نقدية في عموم ثقافتنا العربية، وما منجز منها لا يتوازى مع المنجز الإبداعي في الشعر والرواية والفنون. لكن ذلك يتضح أكثر في العراق منذ هجرة الاسماء النقدية الكبيرة ومنها: طراد الكبيسي، د. حاتم الصكر، د. عبد الله إبراهيم، د. جاسم الموسوي ومحمد الجزائري، وهناك قائمة طويلة جداً من النقد المهاجر، أما ما يُتداول في صفحاتنا الثقافية، أو ما يُستعرض في المهرجانات فلا يخرج عن كونه ملاحظات عارضة، أو اخوانيات هنا وهناك، بل ولا يتعدى في غالبه أن يكون عبارة عن تسقيط الفروض التي من اجلها حضور الناقد هذا بوجود الشاعر ذاك أو الروائي في المهرجان المقام لأجل قضية قد تكون خارجة عن حاجة الثقافة. وهكذا، ودليلنا في ذاك كله أننا لم نتمكن من الاحتفاظ في مكتباتنا الخاصة بنسخة من كتاب صدر في النقد طوال السنوات العشر الماضية.
ويواصل عبد العزيز:
هناك مشكلة أضافها النقاد الذين لم يغادروا العراق، أو الذين قدموا إليه من الغربة، فأسماء مهمة مثل: فاضل ثامر وياسين النصير وعلي حسن الفواز وغيرهم دخلوا مأزق العمل النقابي - المهني في اتحاد الادباء ولم يخرجوا منه، فصارت متابعاتهم للمنجز الثقافي عابرة، سريعة، أما أسماء مثل: د. شجاع العاني، د. محمد صابر عبيد وسواهما فقد ظلت تعاني من أزمات البعد عن الوسط الثقافي، بمناطقية عجيبة ظلت حبيسة وسطها السياسي -الاجتماعي. مثلها مثل غيرها في مناطق الوسط والجنوب، التي لم يوحدها خطاب معين.
بمعنى ما أن النقد أيضا تأثر بقوة بمنعطف التغيير الذي اجتاح العراق في 2003، ومن هنا لم يجر جمع المشهد النقدي العراقي في عملية مثاقفة حقيقية، تنأى بنفسها عن المتغير في السياسة، الذي بعثر الحراك الثقافي كله.
ويستدرك بقوله:
وهذا لا يعني أن الساحة خالية من المتابعة والرصد الجادين، لأننا نلحظ بين آونة وأخرى بروز ناقد شاب، صدور كتاب جاد، إقامة مؤتمر، مهرجان حقيقي، يعنى بالنقد لكن الجهود هذه غالبا ما تضيع وسط فوضى الحياة في العراق عامة.
غروب المشهد النقدي
يقول الشاعر والكاتب سلام محمد البناي:
إنّ المشهد الثقافي العراقي وبالذات المشهد الأدبي، يتلمس جيداً تلك الغزارة في المنتج على مستوى: القصة والشعر والرواية تحديداً، وبالقدر الذي نجد فيه هذه الغزارة وهذا الشروق الأدبي فإنه بالمقابل نجد أن هناك غروباً يخيم على الساحة النقدية وما نقرأه الآن لا يتعدى كونه انطباعات شخصية (إلا ما ندر). لكن النقد الأدبي الذي يستند إلى الأسس العلمية والذي بإمكانه أن يحد من حالة الإفراط غير المدروسة في النشر وفائدته تكمن في أنه سيدعم تجربة الأديب (ومن ضمنهم المتحدث) كونه ينأى عن المجاملة. كما أن النقد سيساهم حتماً بتفكيك النص الأدبي وتحليله، وبالتالي يمكن أن يصل بالكاتب إلى مستويات متطورة من الإبداع ومن الإدراك أيضا.
دوران حول المستورد والمعرّف
الشاعر العراقي علاوي كشيش من جانبه يعتقد أن مهمة النقد:
فتح الأبواب المغلقة، وأن يعيد كتابة العمل الأدبي أو ما اتفق عليه إعادة انتاج العمل الأدبي، فإن ما يجري منذ مراحل تاريخية بعيدة هو انتاج قواعد لإرضاء التعليمي والصنعوي على حساب ذائقة المتلقي، أو بكلمة أوضح صناعة نماذج وأيقونات ثابتة لا تتغير ومثال على ذلك: مفهوم الأدب والنقد الذي تتمرغ فيه المناهج التعليمية والاكاديمية، وإنصافاً فإن هناك جهوداً طيبةً قليلة تحاول تلمس خطواتها وسلوك طرق غير مطروقة ولكنها في كل الاحوال مقصية؛ لأنها تخرج عما هو معرّف ومتفق عليه.
وإذا كانت هناك مغامرة في النقد والقول ما زال له:
فإنها لا تعدو تكييف المستورد وتطبيقه على الانتاج الادبي العربي لاغية بذلك شروط انباته وزراعته وسقيه في تربة تختلف عن التربة التي نشأت فيها المناهج النقدية المجتلبة. ولا نغفل ذكر الانطباع الذي يثيره النقد الانطباعي خاصة في الصحف. وهو يفتقر إلى المنهجية ويكون عبارة عن انبثاق ذوقية. وإذا كان النقد بدأ في نشأته الاولى انطباعياً ثم صنعويا خاصة في القرن الرابع الهجري عدا جهود أبي حيان التوحيدي وحازم القرطاجني، فإنه لم يكن يخلو من تسرب الأيديولوجي والعابر إلى دفاتره حتى بداية القرن العشرين. حيث اضطر إلى التسوق من أسواق النقد الأخرى الاجنبية عليه، واستورد البضائع التالفة التي استنفدت أو فقدت قدرتها على المقاومة في أرضها. ولكن يؤشر هذا المعطى الى حقيقة ثابتة تتداولها الألسن أن الناقد أديب فاشل ويمكن أضافة شيء لها وهو أن الناقد لم يستطع لحد الآن الانصات إلى همس النص وإلى مشاكسته وإلى طرقه الخاصة، بل ما زال النص يخضع لما هو مسبق ومخطط له. ولا يمكن في هذا المجال إغفال كتابات خالد علي مصطفى ومالك المطلبي النقدية. اضافة إلى ذلك ما يطرحه الموسم الاكاديمي من بعض الطروحات المعافاة بها الجامعات والجماعات النقدية الرسمية التي تطلب المزيد لدعم وجودها الرسمي على حساب المغامرة التي لا تتوقعها هي لأنها خارج خططها الموضوعة.
مجاملات على حساب الإبداع
يعتقد الناقد العراقي فيصل عبد الحسن أن النقد في العراق كما كل شيء فيه تأثر كثيراً، بما آلت إليه اوضاع المجتمع العراقي بعد الاحتلال، وما آل إليه دور المثقف الناقد، الذي صار يلهث متنقلاً من هذه الجريدة لتلك. بعد أن عم نشر الجرائد، والمجلات لكل من ظنّ أنه كاتب ويمكنه أن يقنع القراء بمواهبه، لأجل توفير لقمة العيش أو لتوفير مبلغ من المال لهجرة غير محمودة العواقب إلى خارج الوطن، فلم يعد الناقد متخصصاً بلون أو بفئة أدبية محددة من النقد، بل صار كاتباً عاماً يكتب في السياسة، وفي النقد الاجتماعي، وتحرر أغلب نقادنا من الشارب، الذي يمثل مرحلة من مراحل الحفاظ على التقاليد النقدية الصارمة. فهم كما ازالوا الشارب أزالوا ايضا كل القيم النقدية التي تعارف عليها النقد العراقي، وصار النقد في معظمه اخوانياً، وما تتطلبه مائدة الشراب عادة من مجاملات، ومحبة مؤقتة للمقابل.
ويتابع عبد الحسن قوله:
وليس معنى هذا، أن الساحة خالية من النقاد العراقيين الحقيقيين، الذين تهمهم قضية النقد في العراق، ويتابعون حركة النص الأدبي ابتداءً من كتابة المبدع في هذه الجريدة أو تلك المجلة، وحتى نشره لكتابه الخاص، ولن أعدد أسماء هؤلاء كلهم. فهم معروفون بجديتهم في حماية تقاليد النقد العراقي الأصيل، ولكن لي أن أشير إلى جهود بعضهم الواضحة في النقد الأدبي، كالناقد ياسين النصير، سعيد الغانمي، عبد الله إبراهيم، باسم عبد الحميد حمودي، جهاد مجيد، ناظم عودة، عدنان حسين احمد، جميل الشبيبي، محمد جبير، جاسم عاصي، عادل عبد الله، وغيرهم.
ويواصل حديثه عن الوضع الذي يصفه بأنه هش والجميع من حولهم يبحثون عن فرصة على حساب الحق والجمال والعدل، أعرف مجنوناً مهلوساً تسيد فوق اكتاف ادباء ونقاد في صفحة ثقافية لإحدى أهم الجرائد في العراق، وكل من يصادفه يصلي على الرسول ويسبح بحمد الله تعالى على عبقريته وفرادته النقدية والفكرية، وكثرة أعمدته التي هي مجرد غثاء، لا يضر ولا ينفع، والتي لا يمر يوم من الأيام من دون أن تكون صورته البهية مصاحبة لها!! وكل من يلتقي بالنقاد الحقيقيين في الطريق يقول لهم تنحوا جانبا، دعوه يمر فهو زمن لــ"حليقي الشوارب والمجانين" في العراق، أعرف من هم اقل من المستويات الذوقية أو الثقافية لهؤلاء النقاد أخذ فرصاً أكبر من حجومهم في توجيه آليات العمل الثقافي والنقدي في العراق.
فوضى النقد
يوضح الكاتب علاء مشذوب أن الحركة النقدية في العراق تعيش في فوضى أسوةً بالأنشطة الثقافية الأخرى كالقصة والرواية والشعر والسينما، والسبب هو عدم وجود ملامح واضحة لتلك الأنشطة الثقافية التي يكون فيها النقد الوجه الآخر له، فنحن نعرف أن الظاهرة النقدية لا يمكن أن تكون منفردة من دون عمل أدبي تبنى عليه العملية النقدية، ليس بمعنى الطفيلية أو الاتكالية ولكن بمعنى الديالكتيك المنتج.
كما، أعتقد أن الكثير ممن يمتهنون العمل الثقافي يترفعون عن النقد، لاعتقادهم أن النقد ليس عملية إبداعية، وإنما هو عملية تحصيل حاصل، فالعمل الأدبي بعمومه قد أنتج وظهر على الساحة الثقافية، وما النقد سوى إفراز بعدي، وليس قبلي، وليس هو تقويم له، بقدر ما هو عملية نيل من الآخر المتمثل في عمله الأدبي، فالنقد في أحد أوجهه، هو تسليط الضوء على السلبيات التي تخللت ذلك العمل، وبالتالي فهو عكس الفلسفة. إذ إنها عملية نقدية بمعنى أوسع وهي في هذا المعنى تفحص شيئاً لكي تحدد نقاط قوته وضعفه وبهذا المعنى أيضاً تكون الدراسة النقدية متعلقة بمزايا الموضوع الذي تدرسه فضلا عن عيوبه.
كما أن هناك مناهج نقدية قد تجاوزت النقد الأدبي بكثير ومنها المناهج الحديثة كـ(البنيوية والسيميائية والتفكيكية) ومن ثم تبعتها حركات ما بعد الحداثة وآخرها النقد الثقافي الذي يسلط الضوء على المهمش والغائب والهامش.
ويختم مشذوب:
لا بد من تأشير حالة نقدية موجودة على الساحة الأدبية العراقية، وهي بروز تجمع أو حركة أو مجموعة، تنطوي تحت لواء اتحاد أدباء وكتاب بغداد، تحتوي على نخبة ثقافية نقدية تضم في عضويتها أستاذة اكاديميين.
نقدنا سبعيني الهُوية
الشاعر الشاب والصحفي صلاح السيلاوي يرجع الأمر إلى أن الوضع الامني والسياسي المتردي في البلاد أثّر بشكل سلبي كبير على خريطة المشهد الثقافي العراقي برمته، وكان النقد الادبي من اولى المتأثرات بإشكاليات الحياة العراقية. ولذا، تجد النظرة العامة لدى عامة النقاد ما زالت تعتمد على آليات التعاطي السبعينية مع المطبوع. ولا أعني تراجع الاعتماد على المفاهيم الحديثة، بل تراجع استيراد مفاهيم جديدة أي إن الناقد العراقي ما زال مستورداً بامتياز.
وهو بهذا لم يستطع مقارنة منجزه بما يولد من مفاهيم نقدية في مساحات النقد العالمي، غير قادر على خلق بؤرة نقدية خاصة به، أو مشغلاً نقدياً. يمكن أن يقال انه مشغل نقدي عراقي. وهذا يعني أن الخصوصية التي يجب أن تتوافر في كل اصناف الأشكال الكتابية تختفي في المشهد النقدي العراقي.
يعزو الكاتب هادي جلو مرعي تراجع النقد العراقي وعدم وصوله إلى درجة عالية من التقدم لأسباب منها:
عدم التواصل مع الآخر وفي الوقت ذاته ظلّ العمل النقدي في العراق فرديا، ما جعله غير مؤثر في المشهد الثقافي والابداعي عندنا في حين كان بالغرب مختلفاً تماماً، ولذلك تطلعنا إلى نوع مختلف تمثل بوجود العديد من المدارس النقدية وهي نتيجة اعمال جماعية، في روسيا مثلا: كانت جماعة براغ النواة للشكلانية الروسية ومن اعضائها نيكولاي تروبنسكوي وجاكبسون وغيرهم. وفي باريس كانت التناصية وهنا: رولان بارت وجيرار جينت وكرستفيا، كل ذلك كان من عمل جماعي ولتخرج لنا من بعد ذلك مناهج عدة منها: البنيوية والتفكيكية والسيميائية والأسلوبية ونظرية التلقي. إذاً هناك تضافر جهود وانسجام في العمل.
ويضيف مرعي أما في النقد العراقي فلم نلتفت إلى هذه المسألة سوى بتجارب قليلة للتو ظهرت وصار الناقد العراقي إحدى العلامات في النقد العربي ولكن لم يصل إلى مستوى الطموح؟ أما المبدعون في الجوانب الاخرى فظلوا يتذمرون من النقاد وفي واقع الامر يبدو ان النقد يحث الخطى بالاتجاه الصحيح بالرغم من العواقب التي تقف امامه إذ لا توجد حتى اليوم مجلة مختصة بالنقد اضافة إلى ذلك فقد بقي الدرس الاكاديمي في جامعاتنا تقليديا وهو بشكل عام تلقيني ولم يواكب المتغيرات والتطورات المتسارعة وطبعا هناك اسباب أخرى والجميع يعرفها وليس هنا مجال ذكرها لكن هذا لا يعني اننا لا نملك نقادا كبارا مثل عبد الله ابراهيم ومحمد صابر عبيد وحاتم الصكر وياسين النصير.
 كاتب وصحافي